الأربعاء، 9 مارس 2011

الخروج من بطن الحوت


" الفرق بين الموت والحياة ؛ لحظة .. بتشوف فيها الحقيقة .. وأنا شوفت الحقيقة كتير "

****

ماسوشية ؟ ربما .. لكني أطعن نفسي قبل أن تُذبح علي أيادٍ لا تعرف الرحمة .

استقبلني البحر بابتسامة غريبة كالغيمة التي تغطي شمسه : عُدْت ِ لي .. لنقطة الصفر.

لم أحتمل أي شيء يبتسم أو يعلن أي مظاهر الفرح . كرهت إسمي ، أصبحت أشفق علي من يضحك ، ويثير في نفسي رغبة للغثيان من يحاول إضحاكي !

- تبتسم لي أم عليّ ؟

- عليكِ ! صديقك أنا .. هل نسيتِ؟!

- لم يعد في العالم ما يُدهش .. أو بالأصح كما قالت سوزان عليوان " لم يعد في القسوة ما يُدهش" .

- مُحطّمة ؟

- مكسورة ، غاضبة ، جريحة ، حتي الألم لم يعد يُجدي !

نظر لي ، وأطال . أخفيت وجهي كي لا تفضحني ملامحي المُرهقة . قالت لي صديقتي مُسبقاً " عيبك إن اللي ف قلبك بيبان علي وشك .. والناس مش كده ..الناس عايزة ملاوعة ، وكدب ، وتكتيك .. وواحده بواحده .. الدنيا بقت كده ..هات وخد..مصلحتي أولا .. بطلي هبل "


كلماتها تعصف بي .. تزلزلني . تصوّب سهما ليرشق في أعماق ذاتي وثقتي بها . أعصابي تؤلمني لشدة إرتعاشها من الغضب والخوف . اقتربت من الشاطيء أكثر ، لامسته بطرف قدمي . ردّ التحية بمياة دافئة قليلا وموجة هادئة .. تنسحب بهدوء لينحسر الماء فجأة وأبقي في العراء لأشعر بجليد في أوردتي يحطم خلايا جسدي رغما عني . أنتفض ذعراً وأقترب أكثر . الموجات تبتعد عن موضع قدمي كأنها تخشاني في ذروة غضبي كما يفعل بعض أصدقائي ، أما أنا .. فلم أعد أخشي أي شيء . ضاع كنزي الثمين في غياهب البحر ، استكثرت علي ّ الحياة أن أمتلك مثله ، رغم أنه ليس سوي صندوق بداخلة ورقة .. قصة .. بضعة سطور .. كلمات .. لكنها عمري . سلبته مني الحياة في لعبتها الحقيرة ، ألم يكفيها ما حدث ؟ أي متعة تلك في تعذيب جثة ممزقة ، ميتة ، صعدت روحها ولن تعود . أي وحشية تلك التي تدفع لصا لأخذ قطعة حلوي من طفلة يتيمة لا ليأكلها .. بل ليلقيها في القمامة . ليعلمها الدرس الأول والأهم في الحياة .. الأمان خُرافة .



كنت غارقة بالتفكير ، ولم أنتبه أني أركل الماء بشده . أفرغ طاقة غضبي وضعفي فيه ، أستنزف قواي رغبة في الموت علي الشاطيء ، كسمكة أدركت مصيرها المؤكد بالموت الحتمي بعيدا عن ما تحيا به . لا أريد الموت غرقاً ، لو أردته لتوجهت للأعمق منذ زمن . أريد البقاء كجثة علي الشاطيء ، لأرمق الدنيا بآخر نظرة إحتقار وإزدراء ، وسؤال مفقود الإجابة . لماذا فعلت بي ذلك ؟

أركلها بعنف ، بقهر ، بألم يعتصرني ، بضعف لا أخجل منه ، تماما كالدُفعات الهاربة من الموج التي تناثرت لأعلي لتبلل جسدي ، لتطول وجهي ، لتخفي دموعي بينها وتختلط بها وتحملها لأسفل ، لتختلط بماء البحر ثانية ، لتسير مع أمواجه كرسالة لا يراها العالم ، لتلحق برفيقتها التي ابتلعها مني البحر .. في لحظة احتياج .


مورفي .. أرجوك ، قل لي لماذا اخترعت ما يسمي بـ"قوانين مورفي" ؟ أنت أيضا ماسوشي تعشق تعذيب الذات ؟ لمَ التضاد بين الحياة والرغبة ؟ لماذا يختفي الشيء عندما نحتاج إليه ؟ ويتكاثر بشده عندما لانريده ؟ لماذا لا يؤخذ منا إلا كل عزيز ويُترك ما دون ذلك ؟ هل تتطهر الأرض بالعكس ؟ هل باطن الأرض أجمل من سطحها ؟ سمعت أن هنالك جحيم تحت الأرض ، وتحته ماء ، وتحته جحيم ، وتحته ماء ، ثم جحيم وماء .. ياربي .. أهي ما الحكمة في أن يوجد الإثنان معا ويظل كل منهما بمفرده ؟ لم لا تطفيء اللهب بالمياة ، لمَ تترك الكرة الأرضية تغلي في أعماقها بين هذا وذاك ؟ أهو قدر علي كل مؤنث أن تشقى ؟


لم تكن تلك القشة التي قسمت ظهر البعير ، الظهر مكسور ، القلب مكسور ، والسََند مكسور . ما الجديد إذن ؟ ما الحكمة في أن يتخلي عني كل من أحب في لحظة ضعفي ؟ أين أنت يا مورفي لتثبت لي العكس ؟ لم تتكاثر الهموم في لحظات الضعف وتبتعد وتذهب في لحظات القوة ، ومن أين تأتي قوتنا وضعفنا .. هل نحن من نتحكم بهم أم من ؟ عقلي مُرهق .. لكنه كالموج يهدأ ولا ينضب . جسدي خذلني ، كما كلهم ، أتهاوي علي ركبتيّ وأجثو بهما فوق الرمال الناعمة في الماء لأسهّل مُهمة الأمواج الشاهقة في لطمي بقوّة ، وأفتح لهما ذراعيّ ترحيبا ، تماما كما تفعل بي الحياة التي تنتقل بي من سيء لأسوأ. غريبة هي .. إما ناصعة البياض أو حالكة السواد .. وعيناي تري كل الألوان ليست كعيون القطط المصابة بالعمي . لكن الأمواج ترسم خربشات حسيّة بروحي كمخالب القطط . تتلاحق وتتسارع إلي كأنها وجدت فريسة تسد بها جوعها ، لا تدرك أن الفريسة جاءت بقدميها .. بكل إرادتها .. كي تموت .


المياة تغمرني بالكامل وأنا في قمة إستستلامي ، أتذكر كلمة صديقتي " قاومي .. أنت ِ قوية " ، وأبتسم باستهزاء لأوقن بمدي صحة إجابتي عليها " ودي لما بتتكسر .. بتتكسر بجد ". علي عكس أكثر من صديق ، أخبروني جميعهم بأني "هشة " في يوم واحد ، في أوقات مختلفة ، كأنهم علي اتفاق .. أتذكرهم جميعاً . من أحبني لأني قوية ، ومن أحبني لأني هشة . أما من أحبني لأني أنا .. أعتبره ذهب و لم يأت بعد . ذلك ليس فعل ماض من "يذهب" . هو "ذهب" ، إسم علي مُسمّي ، معدن غال ذو قيمة لذا فهو غير متواجد علي سطح هذا الكوكب . أتذكر كلمة أمي وشكواها الدائمة أني لا أرتدي ما لديّ من حُليّ . أحب البساطة ، وأكره القيود حتي لو كانت أساور ذهبية أو سلاسل للعنق . ربما ذهب لنفس السبب؟ لكني أحببت ذلك من أجله ، عشقته ، وزيّنته ،تجملّت به لأكون أجمل من يري ، لكنها الحياة .. تستكثر عليّ أفراحي كالعادة بلا سبب ، أخبريني فيم أذنبت ؟ لو أخطأت خطأ واحد لتقبلّت الأمر دون اعتراض ، إذا كان وجودي مكروها لهذه الدرجة .. لم لا يأخذني الموت ؟ لقد ذهبت إليه مرات .. وأتاني مثلها .. وفي كل مره يتركني علي خط مُعلّق بين الحياة والموت . لأري الحقيقة كشبح مرعب يكشف عن وجهه فجأة ، لا ليقتلني .. بل ليفرح بإثارة ذعري .. ثم يذهب وتركني ، لا أنا حية ولا ميته .


إنحسرت المياة مره أخري ، وتلاشت الغيوم وظهرت الشمس ، تجففني من أطراف شعري المتطاير الهائج حول وجهي حتي أصابع قدمي .. تجففني رغما عني كالأم التي تجفف طفلها لتذهب به للمدرسة . متجاهلة صراخه المروّع ورغبته في عدم الذهاب . تتظاهر بصمم إختياري .. كي يتعلّم ويكبّر . يحاول التملّص منها فتقبض علي ذراعيه الصغيرتين بقبضة تبث فيه الرعب و تقتلع قلبه الصغير من بين ضلوعه .. لترغمه علي الذهاب .. خاضعا . الفرق أنني لست طفلة ، ولم أكبر بعد بما يكفي .. معلّقة أيضا في أرجوحة لا أعرف ستقذف بي إلي أين .. لكنه ولاشك المصير المحتوم .


أجلس علي الشاطيء وأضم ركبتيّ إلي نفسي ، أنطوي علي ذاتي . للمره الأولي أشعر بيونس بعد خروجه من بطن الحوت ، وحيدا . لا يحميه حتي جلده المتآكل يخطر ببالي دعاؤه " لا إله إلا أنت ، سبحانك ، إني كنت من الظالمين " .فأنادي يا بحر ، أنا لست حزينة علي ما فقدت ، أنا حزينه لأني سأفتقد ما فقدت . أنت تعلم ما بي من لوعة لا أستطيع إخفائها ، تماما كعلمك بما عانيته طيلة حياتي . رحيل الأحباب أكثر ما يؤلمني .. ستذهب أختي ، ويذهب أخي وأخي الآخر .. حتي أمي وأبي . لقد رحلوا عني جميعا أو في الطريق إلي ذلك . دعني أبكي وأرجوك .. لا أود سماع لوم أو عتاب .ما أرغب فيه حقا أن أصعد لأعلي قمة وأصرخ بشده " أنا آسفة يا دنيا " أكررها حتي أسقط مغشيا عليّ وأتحطم فعليا . كفاني إنكسارات معنوية تخفيها إبتسامتي . كرهت إسمي لأنه أصبح عادة .. أخفي ألمي بها . أنا أُظهر ضعفي كما العظام للشمس .. ليقوَى . أو يضمر بفعل الآشعة الحارقة .


هما إختيارين : موت أو حياة ، لكن بينهما عدة أقدار .. وقد رضيت بقدري ، ولي رغبة أخري في ذلك .. ربما ليست رغبة لكنها إيمان .. إنه وقت الضعف ، وقتي لأركض في شوارع الحزن ، وأعود للصعلكة بين الحواري المظلمة ، والجدران الباردة والوحدة المفزعة . ذلك وقت استرجاع طعم المرارة ، وأخذ الجرعة الدورية من خمر الوجع ، لأملأ كأسي منه ؛ وأدمنه .. مرات ومرات ، لأمسح من قاموسي طعم السعادة ، لأتذوّق نصيبي .. وأشرب .. وأرتوي .. حتي آخر نفس .. لعلني أرضي .. ثم أموت.




السبت، 16 أكتوبر 2010

ذاكرة شفافة

مكان دافيء.. بلا ذاكرة .
هكذا تم وصف المحيط الهادي علي لسان أحد أبطال فيلم وداعاً شاوشانك ، بعيداً عن الفيلم وما يثيره في النفس من أحاسيس متناقضة ، جذبتني تلك المقولة .. لا لشيء سوي أنها عنه .. المُسطّح الأزرق.




المحيط الهاديء يشكـّل ثلث مساحة الكرة الأرضية ، ونصف ما تحتويه الكرة الأرضية من ماء .. رغم ذلك .. بلا ذاكرة ؟! 
الجملة ذكرتني بشيء ما لا أعرفه  .. كل ما توقف أمامي سؤال ..  ألم نمُر من قبل بمكان دافيء بلا ذاكرة ؟ 


أحياناً نشعر بالدفء .. المادي والمعنوي ، لكن من يفقد ذاكرته لا يعرف إذا كان فقدها أم لا لأنه لا يتذكر تلك الذاكرة أصلا ً.
أول مكان لتواجدنا علي سطح هذا الكوكب .. كان رحم الأم ، حيث الدفء و .. إنعدام الذاكرة .
أقترب الآن من فهمي للحلم الذي تعسّر عليّ تفسيره من قبل .. لماذا أحلم دائما بالهروب لرحم أمي؟
الآن أدرك أنه المكان الوحيد الآمن في عقلي الباطن  . 
كنت أعتقد انها أمنةه مستحيل أن تتحقق .. أن أعود إليه.
لكن الإستحالة تكمن في حدود معرفتنا ، فكلما زادت أمواج المعرفة تلاشي المستحيل مع الجَزْر .


لازال هناك شيء عالقاً بخاطري ..
إذا كان المكان المخصص للنسيان .. نصف ماء الكرة الأرضية وثلث مساحتها . ألا يستحق ذلك أن نعطي أهمية للنسيان ؟ وأن نغسل همومنا بإستمرار للإحتفاظ بذاكرة شفاةه .. كماء الهادي؟

كل الأشياء يمكن نسيانها ، فقط .إغسل ذاكرتك بالماء .

من قصيدة غير منتهيه في تعريف العشق لنزار قباني

عندما حاولت أن أكتب عن حبي ..

تعذبت كثيرا..

إنني في داخل البحر ...

وإحساسي بضغط الماء لا يعرفه

غير من ضاعوا بأعماق المحيطات دهورا.